شيخٌ وقور، أدركته في الستين من عمره، تراه فتُّحبُّه لبساطةٍ وطيبة كانت تعلو مُحياه، قليل الكلام، دائم الصمت والتأمّل، عُرف بالحكمة والأناة، والكرم وصلة الرحم، يذهب بعد صلاة الفجر إلى مكان عمله، في جزء من منزله قد خصّصه لذلك، عبارة عن عريشٍ من الخشب يتّكئ على جدارين من الحجر، مفتوح من جهته الشَّمالية على ساحة عامة، أما مهنته فكان يَعمل في هندسة وإصلاح الأسلحة، أحبّ هذا العمل وأتقنه وأبدع فيه على شحّ في الأدوات التي كان يستخدمها، فأغلبها أدوات بدائية، رُبَّما صنع بعضها بنفسه..
أمامه عدد من الكراسي المصنوعة من الخشب، المحبوك بسعف النخل، تشبه الأسرَّة، نسميها في لهجتنا (قِعَادة )عليها وسائد محشوة بزهور نبات ينتشر في القرية اسمه ( الذبيلي ) يشبه القطن في لونه وملمسه، ويفرش على هذه ( القعايد ) طراريح من القطن المكسو بالقماش نسمّيها ( المُعَطّب )، يجلس عليها من يأتون لإصلاح بنادقهم، ومن يأتي للزيارة أو للسلام أو للحديث، أو لتناول الطعام..
وقد وُضِع أمام كلّ قعادة ( تَخته ) من الخشب توضع عليها القهوة والتمر والفناجيل، كان مقر ُّعمله مَجمَعًا لأخبار القبيلة والقبائل المجاورة، فرواد المكان كانوا يأتون من شتّى القرى، ومن قبائل مختلفة يحمل كلّ واحدٍ منهم أخباراً عن الزراعة والأمطار.
صَحبته فترةً من الزمن ملازمًا له – بين عامي 1405 إلى عام 1411هـ – في غير وقت الدراسة، يعمل غالب وقته، ونادراً ما يغادر القرية، ينهمك في عمله محبًا له دون أن تكون الأجرة همّه، ويكتفي بما يعطيه صاحب البندقية ، سواء قلّ أو كَثُر وربما عمل في البندقية الواحدة يومين أو ثلاثة، واكتفى بقول صاحب البندقية له: بيض الله وجهك، ما قصرت.
لا يفاصل ولا يشترط أجرًا للعمل، وعندما ناقشته مرةً في ذلك قال لي: مَن يقصدني لحاجة لا يقضيها له غيري، راحتي وأجرتي قضاء حاجته، والدنيا قليلها وكثيرها يذهب.
وأذكر أنه ناداني لمساعدته في استبدال تخشيبة بندقية قديمة كاملة – إذ كان حريصًا على أن أكتسبَ خبرةً في هذا المجال – فوافقت واشترطت عليه أن تكون الأجرة خمس مئة ريال، لا تنقص ريالًا واحدا نقتَسمها مناصفةً! فوافق مباشرة على هذا الشرط، وكنتُ أعلم أنّها ستأخذ منّا جهدًا ووقتًا لا يَقِلُّ عن أسبوعٍ من العمل المتواصل، توكّلنا على الله وبدأنا العمل وهو يرشدني، كنتُ أعود من المدرسة الابتدائية الظهر، وأستمرُّ في العمل معه حتى المغرب، وعندما أنجزنا العمل سألته متى سيأتي صاحبها؟ قال لي غدًا، ذهبتُ في الغد للمدرسة، ومرّ اليوم سريعَا، عدتُ بعدها للمنزل ، وقبل أن أنزل شنطة الدروس من على ظهري توجّهتُ إليه طَلبًا للمبلغ المُتّفق عليه، فَهَشَّ في وجهي وبّشَّ كعادته، ونادى زوجته ( غرسه) رحمها الله، لتحضر المبلغ من المنزل، فذهبتْ سريعًا و عادت ومعها ال ( 250 ) ريالا، قال: تفضّل ، أخذتُ المبلغ فرحًا وذهبتُ إلى أمِّي كي أخبرها، فابتسَمَتْ لي وفَرحَتْ من فرحَتي، تغديتُ ورجعتُ إلى مقرّ العمل لأتفاجأ بأنّ صاحب البندقية موجود جاء للتوّ، أخذ بندقيته ومدح وأثنى على العمل، ثم قال بيض الله وجهك يا عم، والله ما معي شيءٌ من المال لأعطيك! قال له ذلك وسط ذهولٍ منّي، فقال له ذلك الشيخ: الله يبارك لك، قَضيتُ حاجتك وهذا يكفيني! ثم انصرف.
فاكتشفتُ أنّ المبلغ الذي في جيبي من ماله الخاص، ولم يستلم ريالًا واحدا ثمنًا للعمل، حاولت إرجاع المبلغ، لأنّي أعلم ظروفه، فرفض وقال لي: الرِّجال على شروطها
هذا جانبٌ من سماحة نفسه، لا يحرص على جمع المال، ولا يحرص على إخفائه، فما يكسبه في يومه يذهب في حينه، أمّا عن كرمه فلا يكاد يمرالأسبوع إلا وعنده أضياف مرة أو مرّتين، وقد أخبرني أحد أخوالي أن الذَّبيحة السمينة كانت تُحجز له، لكثرة أضيافه ، يجتمع أهل القرية عنده بشكل يومي أو دوري للمسامرة والعشاء، والاستماع إلى ( الرادوا ) المذياع، وشُرب الشاي في ساحة منزله ، ومما قيل من ( الرزفة ) في إحدى السمرات :
يارب تحجِب على بو كندرة ….
عدّيت وان الروادي تدّهر ….
من باب صنعا إلى وادي عدن.
له تقديره واحترامه بين القبائل المجاورة، ولا يكاد يقفُ في حاجةٍ عند أحد إلا تم قضاؤها تقديرًا له، ذاك هو بزان بن عبدالخالق – رحمه الله –

بقلم الكاتب الأستاذ/ محمد عبدالخالق ال محفوظ الشمراني
ادارة التعليم بمحافظة القويعية