كلُّ مَن عليها فانٍ ويبقى وجهُ ربك ذو الجلال والإكرام}…
بأي حرفٍ أبدأ، وبأي لفظٍ أعبر،
وقد تلعثمت الكلمات، وجفّ مداد البيان، وارتبك القلم بين الأسى والحنين…
هذا مصابٌ ما خفّ وزنه على القلب، ولا رقّت وطأته على الوجدان،
مصابٌ خنق الحروف في حنجرتها، فتكلمت لغة الدموع، وسادت لغة الصمت،
لكن لا بد للمداد أن ينطق، وللقلب أن يسكب مكنونه على صفحة الوفاء.
إنّا والله ما فقدنا أخًا فحسب، بل فقدنا أبًا بعد أب، وسندًا بعد سند،
فقدنا العالم المربّي، والناصح الأمين، والمُصلح بين الناس، والمُضيء للمساجد والمنابر.
إن الموت كأسٌ كلُّ نفسٍ شاربةٌ منه، وميدانٌ يدخل فيه الأحباب واحدًا تلو الآخر،
{كل نفسٍ ذائقة الموت}… ولكن العزاء أن لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكلُّ شيءٍ عنده بأجلٍ مسمّى.
وهذي أبياتٌ هي نفثة مصدور، لا أبتغي بها فخرًا ولا تزويقًا،
بل أرجو بها تسلية قلبٍ انكسر، ومواساة نفسٍ لم تحتمل الرحيل،
كتبتها في وداع أخي وأبي بعد أبي، الشيخ محمد بن صالح بن مسفر الشمراني،
أحسن الله مقيله، ورضي عنه، وأسكنه فسيح جنّاته
تقول الأبيات
أيا عينُ جودي بالدموعِ السواكبِ
ولا تبك بعد اليوم فقد الحبائبِ
إذا أسعفت منكِ الدموع على أخي
فلن تُطلبي جُودا بأعتى المصاعبِ
رحلْتَ أخي هل بعدَ فقدِ لقائكم
هناءٌ وإيناس ونيلٌ لمأربِ
رحلتَ أخي فالجرح في القلب غائرٌ
يشاركني في ذاك كل الأقاربِ
بكيتُك لا سخطًا ولكنّ فقدَكُم
دعاني لهدَّاج الدموع الضواربَ
فكم قد وقفنا من ورائك خُشَّعًا
وقد ملأ العُبَّاد كلَّ الجوانبِ
خطبت فكم من منبرٍ قد روى لنا
أحاديثك الحسنى كرجع السحائبِ
جعلتَ من الدينِ الحنيفِ منارةً،
وقلتَ طريقُ اللهِ خيرُ المساربِ
ختمتَ كتابَ اللهِ شهرَ صيامنا
وناديت وترا ذا العطا والمواهبِ
بنيتَ بيوت الله في كل بقعة
ففيها يُنادى حيَّ أهل المكاسبِ
جعلت لمن يشكو الظما خير موردٍ
حفرت له الآبار ذات المشاربِ
وجاءتكَ أموالُ الكرامِ، فما نمتْ
لديك ولكنْ نالها كلَّ راغبِ
كسوتَ بها فقراً، وواريت دمعةً،
وأسعفت ملهوفا كثير المصائبِ
ولما وليت الضبط في العدل حقبةً
عدلت ولم تحرفك لومة عاتبِ
وكنتَ لذي قرباك عونًا ومفزعاً
عطوفاً على أمٍ سخيا على أبِ
وفيَّا لزوجاتٍ نصوحاً لنشئهِ
فأنعم بمن ربيت يا خير آدبِ
كريماً ومعطاءً حفياً بوافدٍ
حدوباً على جارٍ محبا لصاحبِ
وكنتَ إذا ضاقتْ دروبٌ على أخٍ
أتيت بموفور الندى والمواهبِ
أيا ربُّ هذا عبدُكَ البرُّ، قد أتى
فأحسن له العقبى بدار العواقبِ
وطيّبْ ثراهُ كلما لاح كوكبٌ
وزدْ قبرَهُ نوراً وأنساً بصاحب
وأنزلهُ في الفردوسِ يا خيرَ راحمٍ
وأجزل له يا ذا العطاء والمآدبِ
وصلِّ على الهادي، نبيِّكَ كلّما
أضاءتْ لنا الأنوارُ سود الغياهبِ