ومهما تكُن عندَ امرئٍ من خليقة
وإن خالها تخفى على الناسِ تُعلمِ

هذا ما قاله زهير بن أبي سُلمى قبل مئات السنين،ولقد وقفتُ كثيرًا مع هذا البيتِ ، ولم أكُن لأعيه لولا فتحُ الله عليّ ، ثمّ صروفُ الدهر التي تجلو الغشاوةَ ، وتخلّص السيل من الزبد الذي يذهب جفاءً . تسير في هذه الحياة ويمر بك الناسُ ، تعاشر مَن تعاشر منهم إلاّ أن كلاًّ منهم يحرص على إظهار الحَسَنَ وإخفاء القبيحَ، ويأبى الله إلاّ أن يتمَ نوره ،ويتفرّد بالكمال المطلق سبحانه، ومع حرص الإنسان على إظهار الجميل الحسن من خلائقه إلا أن ما طُبِعتْ عليه نفسه من أخلاق تتجلّى في مواقف لم يكن يحسبُ حسابها ، فينفلتُ منه ما كان يخشى انفلاته وهو لا يشعر، ولقد رأيتُ من هؤلاء الكثيرَ، مع العلم أن لي كثيرًا من الهَفَوات ، ولكنّه سترُ الله ثم عصبةُ الرجال الأكارم ممّن حولي والذين ينظرون بعين الرضا.
فمن الناسِ من يُصاحبك ويسير معك مبديًا كلَّ جميل ، وتقرأ في عينيه شيئًا غير الذي يُظهره، ولكنك تتهِم نفسك ، إذ لا ترى منه إلاّ التفاني في الخدمة ، واللينَ في الكلمة ،فتبادله ذلك وتزيد ، فما يهولك منه إلاّ أن جفاك وقلاك َ ، وولَّى لا يلوي على شيء كما يولّي الثعلب بنتفةٍ حصّلها ! وإذا لقيته أشاح بوجهه كأنك قد قتلتَ أباه أو فريتَ في عرضة، وعندما تتفقّد أحوالك ، وتتثبّت من أمورك تجده كَمَنَ لمصلحةٍ ، حتى إذا أخذها وتمكّن منها، طار بها فرحًا ! فذاك صغير حقير
باع الإخاء الباقي في الآخرة بلذّةٍ زائلة، وإذا أردتَ منّي نصيحةً فسلّم عليه إذا لقيته سلام السنّة ثم كُن أسَدًا مُتَرَفّعًا!.
ومن الناس مَن يصحَبُك، ونفسه تنطوي على خبثٍ وشرّ، ما زال يذكر جرحًا قديمًا جرحته إياه بلا قصدٍ، فلا يزال ينتظرُ الفرصة تلو الأخرى حتى إذا حانتْ وواتتْ، انقضَ عليك انقضاض الجارحِ ، ولكن ليس من الأمام فعل الرجال بل من الخلف غدرًا ، يذكرك بسوء في المجالس، ويلوك عرضك ، ويصفّقُ له أمثاله ! فإذا بلغك ما قال وجاشت نفسك ، وثارت ثائرتك فتذكّر هذا البيت :

لو كلّ كلبٍ عوى ألقمته حجرًا
لأصبحَ الرمـــلُ مثقالاً بدينار

ومن الناس مَن يتصدّر المجالس في الحديث ، يقول نحن فعلنا في مكان كذا وكذا ، ونحن صنعنا يوم كذا وكذا…يمتعك بحديثه ، وتعجبُ من قصصه التي تخلب الألباب ،ورواياته التي تأسر الأفهام، وتمر الأيام وتلقاه في مجلسٍ آخر مشتاقًا إلى أحاديثه ، فإذا بدأ كعادته سمعتَ القصص الأولى والروايات السابقة وقد حذف منها وأضاف إليها ، وقلب بعضها وعكس الآخر حينها تعلم ما صاحبك إلا كذوبٌ ذو لسان! يقول الكلمة لا يلقي لها بالاً يسقط بها في أعين العقلاء أبعدَ مما بين نجران وطبرجل! ويسمو في أعين أمثاله كما لو كان من رجالات سند البخاري ومسلم!
أما الرجال الأتقياء فهم شمسٌ في رابعة النهار ، لا تحتاج إلى دليل ، باعوا الدنيا وتفاهات الناس ، سَموا عن الطين إلى جنّات رب العالمين! قلوبهم تعلّقتْ بالآخرة، يبذلون حين يبخل الناس، وتراهم في المقدمة إذ يشتدُّ البأس، ولله در ابن القيّم إذ يقول :
والقلب كالطائر كلما علا ارتفع عن الآفات

بقلم الأستاذ/ محمد عبدالخالق آل محفوظ الشمراني
تعليم محافظة القويعية .